بينما كان فريق تحرير منصة فَكّر تاني يختار اسم سجين رأي جديد للحديث الأسبوعي عنه، كانت توابع التحقيق مع الزميلة لينا عطا الله، رئيسة تحرير موقع مدى مصر، تلقي بظلالها الثقيلة على النقاش.
لم يكن الأمر مجرد متابعة خبرية، بل شرارة أشعلت أسئلة وجودية حول مهنة الصحافة ذاتها: كيف نكتب عن السجون؟ وكيف نعرف أوضاع السجناء؟ وهل المطلوب تحولنا إلى مجرد ناقلين لبيانات وزارة الداخلية التي تنفي كل شكوى، متجاهلةً أن حرية الصحافة هي مساحة تسع الجميع ومنبر للرأي والرأي الآخر، وأداة لإجلاء الحقائق ونشر العدالة؟
أسئلة كثيرة، تصطدم كلها دائمًا بجدار من شح المعلومات الرسمية.
على مدار العقد الأخير مثلًا، لم تعلن السلطات المعنية يومًا عن عدد السجناء والسجينات السياسيين أو عدد المحبوسين والمحبوسات احتياطيًا على ذمة قضايا رأي.
وفي المقابل، تتحدث منظمات حقوقية غير حكومية عن أعداد تصل إلى عشرات الآلاف، وهي أرقام تنفيها وزارة الداخلية مرارًا وتكرارًا، كما تنفي معها ما يتسرب إلينا – نحن المعنيون بالصحافة – من أنباء عن إضرابات أو انتهاكات، لجوءًا للفزاعة المعتادة من الاتهامات المرتبطة باسم جماعة انتهت في مصر هي الإخوان.
في خضم هذا المشهد، صدر توجيه رئاسي واضح صبيحة الأحد 10 أغسطس الجاري، بإتاحة البيانات والمعلومات للإعلام، “خاصةً في أوقات الأزمات التي تحظى باهتمام الرأي العام، حتى يتم تناول الموضوعات بعيدًا عن المغالاة في الطرح أو النقص في العرض”، وهو توجيه يعزز من أهمية وضرورة الاستمرار في الإجابة عن تلك الأسئلة الملحة.
حين تُحال الحقيقة تهمة
تعتمد الأجهزة الأمنية في مصر على استراتيجية ذات وجهين متناقضين تمامًا: الأول هو وجه “مراكز الإصلاح والتأهيل” الذي يُعرض للعلن، والثاني هو الوجه القاسي الذي يواجه كل من يشكك في الرواية الأولى.
الوجه الأول: النفي الرسمي الذي لا يتوقف
رسميًا، ومعه الصورة تبدو مثالية. في 8 أغسطس، نفى مصدر أمني “جملةً وتفصيلًا” صحة ما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن وجود انتهاكات.
الرواية الرسمية، كما نُشرت على صفحة وزارة الداخلية، تؤكد أن “كافة مراكز الإصلاح والتأهيل يتوافر بها جميع الإمكانيات المعيشية والصحية ويتم تقديم الرعاية الكاملة للنزلاء وفقًا لأعلى معايير حقوق الإنسان الدولية، وتخضع للإشراف القضائي الكامل”.
لا تكتفي هذه الرواية بالنفي، بل تقدم تفسيرًا جاهزًا: هذه الأنباء ليست سوى “سلسلة الأكاذيب التي تطلقها جماعة الإخوان في التوقيت الراهن لمحاولة النيل من حالة الاستقرار التي تنعم بها البلاد”. وهي رواية يدعمها الإعلامي المقرب من الحكومة، مصطفى بكري، الذي يعتبر هذه الأنباء “محاولة من محاولات الهجوم الممنهج ضد مصر”، مؤكدًا أنه رصد في زياراته للمراكز “كل المقومات من التثقيف والترفيه”، بل ويشير إلى وجود “علاج صحي في مراكز التأهيل قد لا يكون موجودًا بمستشفيات خارج السجون”، وزيارات آدمية، وأن الوزير اللواء محمود توفيق يتابع الأمر بنفسه.
الوجه الآخر: الثمن الباهظ للكتابة
خلف هذه الصورة، يكمن الواقع القاسي المتكرر، فلينا عطا الله لم تكن وحدها، والقائمة تطول وتوضح نمطًا واضحًا من الملاحقة:
السياسي شريف الروبي: أُلقي القبض عليه في 16 سبتمبر 2022، لمجرد حديثه عبر قناة الجزيرة مباشر عن الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها هو وكل المُخلى سبيلهم من سجناء الرأي، وعن الأوضاع السيئة في السجون.
الصحفي والحقوقي حسام بهجت: استدعته نيابة أمن الدولة في 19 يناير الماضي، في قضية جديدة تحمل رقم 6 لسنة 2025 حصر أمن الدولة العليا، على خلفية بيان نشرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية – التي يديرها – حول أوضاع أحد السجون. لم يُحبس، ولكن أُخلي سبيله بكفالة قدرها 20 ألف جنيه.
الصحفية لينا عطا الله: استدعتها نيابة أمن الدولة في 4 أغسطس الجاري، للتحقيق على ذمة القضية رقم 6182 لسنة 2025 أمن دولة عليا، بعد نشر موقعها تقريرًا حول أوضاع سجن بدر 3 (تضمن بيان وزارة الداخلية نفسه). وأُخلي سبيلها بكفالة 30 ألف جنيه.
جريمتك أنك قدّمت بلاغًا
يكشف حسام بهجت، مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في حديثه لـ فَكّر تاني، عن حجم المعاناة التي يلاقيها مراقبو هذا المشهد، مقدمًا تجربته المباشرة التي سبقت أزمة لينا عطا الله، والتي توضح كيف تتم مواجهة أي محاولة للاقتراب من ملف السجون.
يروي بهجت أنه في يناير الماضي، تم فتح قضية أمن دولة عليا له ليس بسبب توثيق انتهاكات، بل على خلفية بيان نشرته المبادرة عن بلاغ مقدم يطالب النائب العام بالانتقال إلى سجن العاشر من رمضان للتأكد من وجود إضراب عن الطعام بين النزلاء. مجرد الإبلاغ عن وجود بلاغ كان كافيًا لفتح قضية ضده.
يقول بهجت: “وصلني في اليوم التالي للنشر، استدعاءات على جميع العناوين التي أتردد عليها، للمثول أمام نيابة أمن الدولة في الأسبوع نفسه، وتم التحقيق معي على خلفية البيان، وقررت النيابة إخلاء سبيلي بكفالة”.
ويشير بهجت إلى أن هذه ليست المرة الأولى، فمنذ خمس سنوات، تعرضت المبادرة “لأكبر حملة أمنية تمس منظمة حقوق إنسان”، فتم القبض على مديرها التنفيذي، ومدير العدالة الجنائية، والمدير الإداري، بعد استقبال المؤسسة وفدًا دبلوماسيًا للحديث عن أوضاع السجون في ظل جائحة كورونا.
ويحلل بهجت الوضع قائلًا إن هناك “حساسية خاصة ومفرطة” فيما يتعلق بالحديث عن السجون التي تسميها وزارة الداخلية “مراكز الإصلاح والتأهيل”، باعتبارها سجونًا نموذجية “لا يُقبل أي حديث عن تدهور الأوضاع داخلها”.
وهذا الوضع يضاعف من صعوبات التوثيق، التي تواجهها منظمات حقوق الإنسان ويمتد إلى المواقع الصحفية المستقلة التي تغطي أوضاع السجون، خاصةً مع منع الزيارات عن كثير من السجناء في كثير من السجون مثل سجن بدر 3، وهو موضوع قضية مدى مصر الأخيرة، وعدم السماح لهم أو لمحاميهم بالحديث عن أوضاعهم في المحاكم، حيث يقفون في “قفص زجاجي” يعزلهم تمامًا، ويمنعهم الحديث.
وينتقد بهجت استمرار توجيه تهم جاهزة لكل من يكتب عن السجون، مثل نشر أخبار كاذبة، أو إدارة موقع من دون ترخيص، أو “الانضمام لجماعة إرهابية”، وهو الاتهام الموجه له شخصيًا.
هل يأتي الحل من "شاهد" دولي؟
في مواجهة هذا الانسداد، يقدم محمد أنور السادات رئيس حزب الإصلاح والتنمية وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، حلًا يراه عمليًا ينطلق من علاقاته بمختلف الأطراف، لتفكيك هذا الملف الذي يصفه بـ”الحساس”، بمخرج “يُرضي جميع الأطراف”.
الحل، كما يطرحه السادات لـ فَكّر تاني، هو “توقيع بروتوكول تعاون مع الصليب الأحمر”، الذي تكون مهمة فرقه زيارة السجون وتوثيق شهادة للدولة ووزارة الداخلية عن أوضاعها، على اعتبار أن الصليب الأحمر “أفضل جهة معنية بأحوال السجون في كل دول العالم”.
ويقول السادات إن “العبرة ليست ببناء سجون جديدة والحديث عنها، ولكن بالمعاملة وثقافة من يدير السجون وتعاملهم مع النزلاء وذويهم”. ويتساءل: “لماذا لا ندرس إمكانية تدخل طرف دولي مشهود له بالنزاهة والكفاءة والتخصص في عمليات إعطاء شهادات صلاحية لأوضاع السجون؟”.
ويشير إلى أن الصليب الأحمر يعمل بالفعل في مصر مع جهات أخرى كوزارة الدفاع، فلماذا لا يتم توسيع عمله ليشمل وزارة الداخلية والسجون؟ مؤكدًا أن هذا الحل من شأنه أن يوقف “التراشق والتشكيك الذي يحدث في أوضاع السجون” بشكل نهائي.
أسوأ أنواع الحبس
بعيدًا عن الحلول الدبلوماسية، ترتفع أصوات أخرى ترى أن التراجع ليس خيارًا، لأن المعركة الحقيقية هي معركة إرادة وضمير. مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي والرئيس السابق لمجلس أمناء الحركة المدنية، أحد هؤلاء الذين يقدمون موقفًا لا يقبل أنصاف الحلول.
يرى الزاهد، في حديثه لـ فَكّر تاني، أن “الحل في استمرار الكتابة عن أوضاع السجون رغم ملاحقة من يقترب من انتهاكاتها بالسجن أو التحقيق”.
ويقول: “لابد أن نكتب الحقائق حتى ولو كان الكلام صادق، لأنه مش معقول نتحبس بره وجوه.. أسوأ أنواع الحبس هو حبس اللسان، وحبس العقل والضمير”، محذرًا الجميع من “جريمة الصمت” المستمرة.
لا تكتب.. لا تتكلم.. لا تشهد
ويتفق معه علاء الخيام عضو مجلس أمناء الحركة المدنية الديمقراطية، حين يقول إن الكتابة عن سجناء الرأي والفكر “ليست ترفًا، بل واجب وطني وأخلاقي وإعلامي”.
بينما يشخص الرسالة التي يرى أن النظام يرسلها بوضوح: “لقد صار كل من يرفع قلمه ليكشف ما يحدث في السجون معرضًا للاستدعاء أو التحقيق أو الحبس، في رسالة واضحة: لا تكتب، لا تتكلم، لا تشهد”.
لكن الخيام يضيف – في تصريحاته لـ فَكّر تاني – بعدًا نقديًا آخر، معترفًا بأن شجاعة الأفراد وحدها لا تكفي. ويضيف: “الحقيقة المُرة أن غياب خطة عمل مشتركة، وغياب قناة إعلامية تتبنى هذه الأصوات، يجعل تأثيرها محدودًا داخل دوائر ضيقة”.
ويشير إلى أن مطالب قوى المعارضة بتعديل قانون الحبس الاحتياطي والإفراج عن المحبوسين، خاصةً سجناء دعم فلسطين، قوبلت بـ”صفر” من النتائج، وكأن الرسائل “لم تصل أو أن النظام تعمد تجاهلها بالكامل”.
السؤال نفسه صعب.. والإجابة أصعب
يشدد ماهر على ضرورة أن يواصل الناس الحديث “بشكل محايد أو دقيق دون مبالغات”، مع اللجوء إلى التقارير الحقوقية والشكاوى الرسمية الموثقة لتجنب “تهمة نشر أخبار كاذبة”، التي يصفها بأنها “التهمة الأشهر التي يمكن توجيهها لأي أحد يكتب أو يتكلم”.
فلتصل استخارة أولًا
يتناول المحامي محمد رمضان، مدير مكتب الإسكندرية للحماية القانونية سجين الرأي السابق، الأمر بسخرية لاذعة تعكس حجم المفارقة. يقول: “أنا رأيي نفضل نكتب فنتسجن، فنطلّع رسايل من جوه السجن، وساعتها مش حيعرفوا يسجنوا اللي بيكتب علشان هو مسجون، ورأيي إن اللي يكتب، يصلي استخارة قبلها”.
ويوضح رمضان، لـ فَكّر تاني، أن السلطات تعتمد على “مواد قانونية مطاطة” مثل قانون الإرهاب ونشر الأخبار الكاذبة لملاحقة الصحفيين والحقوقيين، متجاوزةً بذلك نصوص الدستور نفسه.
في غير وادي "الوز والبط"
وتؤكد وفاء عشري القيادية بحزب العيش والحرية (تحت التأسيس) أن نقد أوضاع السجون “أمر مشروع قانونًا” طالما كان مبنيًا على حقائق، وتستشهد بالدستور المصري نفسه: المادة 65 تكفل حرية الرأي والتعبير، والمادة 55 تنص على أن كل سجين يجب أن تُحفظ كرامته.
ولكنها تستدرك بأن السياق الحالي يجعل أي كلام عن السجون، حتى لو موثقًا، عُرضة لتُهم “الإضرار بسمعة الدولة” أو “نشر أخبار كاذبة” حسب تقدير الأجهزة الأمنية.
وتختتم عشري، حديثها لـ فَكّر تاني، بتشريح استراتيجية الدولة الإعلامية، ففي مقابل تقارير المنظمات الحقوقية، تنشر وزارة الداخلية صورًا وفيديوهات عن “تربية الطيور، وخط الجمبري، والحفلات الموسيقية”. وهذه الرواية، التي تسميها وفاء عشري رواية “الوز والبط”، ليست سوى “جزء من استراتيجية علاقات عامة هدفها خلق صورة نمطية عن أن السجون إنسانية وفاخرة، لتغطي على أية انتقادات”. وهي أيضًا الصورة التي يصطدم بها كل من يحاول طرح السؤال الأصلي: كيف نكتب عن السجون؟