تتفاقم أزمة المحامين في مصر مع عدد من محاكم الاستئناف على خلفية الارتفاع الكبير في رسوم التقاضي والخدمات القانونية، وسط دعوات واسعة من نقابات المحامين الفرعية والمهنيين للتدخل الفوري لوقف ما يصفونه بـ”سياسة الجباية” التي تعيق حق التقاضي وتحمّل المحامين والمتقاضين أعباء مالية باهظة. وبحسب بيان بأسعار الخدمات المقدمة للجمهور الموزع على إدارات محاكم الاستئناف بأنحاء الجمهورية ممهور بموافقة من الجهات القضائية، اطلع “العربي الجديد” على نسخة منها، فإن رسوم بعض الخدمات بلغت مستويات غير مسبوقة.
وفرضت محاكم الاستئناف رسوماً على “خدمة إصدار شهادات في نفس اليوم” بقيمة 200 جنيه (نحو 4 دولارات)، و”ترتيب الأحكام الجنائية” بقيمة 150 جنيهًا، فيما يتم فرض رسوم قدرها 15 جنيهًا عن كل ورقة إضافية تزيد عن خمس ورقات عند استخراج نسخ من الأحكام أو الصيغ التنفيذية. كما وصلت رسوم استخراج صورة طبق الأصل من أوراق الحبس أو الإفراج أو الحكم إلى 60 جنيهًا، بينما تبلغ تكلفة استخراج صورة من الحكم أو مذكرة النيابة 20 جنيهًا للورقة الواحدة. وتُفرض رسوم تبلغ 150 جنيهًا لطلب فتح باب مراسلة يُعتبر مخالفًا لطبيعة المراسلات، إضافة إلى رسم متغير قدره 60 جنيهًا.
المحامون ينتقدون رسوم التقاضي المرتفعة
يرى المحامون قائمة الأسعار الجديدة تجاوزاً لحدود المعقول، الأمر الذي دفع عدداً من نقابات المحامين الفرعية في محافظات مختلفة إلى إعلان خطوات تصعيدية تشمل الامتناع عن تقديم مذكرات أو سداد الرسوم لبعض القضايا، والتنبيه على أعضائها بتوثيق أية مخالفات تتعلق بعرقلة السير الطبيعي للإجراءات بسبب الرسوم.
وفي هذا السياق، قال محامون لـ”العربي الجديد” إن الرسوم الجديدة لا تستند إلى أسس قانونية واضحة، بل يتم فرضها بموجب قرارات إدارية أو تعليمات داخلية في بعض المحاكم، مما يمثل انتهاكًا لمبدأ دستوري ينص على كفالة حق التقاضي للجميع من دون تمييز أو عائق مالي. وأوضح أحد المحامين في استئناف القاهرة أن “موكلي الدخل المحدود أصبحوا يتراجعون عن قضاياهم بسبب ارتفاع رسوم الخدمات الأساسية مثل استخراج الحكم أو تنفيذ الإعلان أو الطعن، وهو ما يهدد بانهيار الثقة في العدالة من جهة، ويزيد من الأعباء على المحامين أنفسهم من جهة أخرى”.
وفي خطوة تهدف إلى احتواء تداعيات الإضراب الذي نظمه المحامون الأسبوع الماضي، احتجاجًا على الزيادة الأخيرة في الرسوم القضائية، أعلنت النقابة العامة للمحامين، تكفّلها بسداد رسوم إعادة قيد القضايا التي تم شطبها خلال فترة الإضراب، مؤكدة دعمها الكامل للمحامين المتضررين من الإجراءات التي ترتبت على تصعيدهم المهني المشروع.
وأوضحت النقابة العامة للمحامين، أنها دعت المحامين الذين تم شطب قضاياهم إلى تسجيل بياناتهم لدى النقابات الفرعية أو من خلال استمارات إلكترونية، تمهيدًا لتنسيق آلية السداد مع الجهات القضائية المعنية، وإعادة القيد بشكل عاجل لضمان عدم ضياع حقوق المتقاضين. وتعكس الأزمة جانبًا من التوتر المستمر بين نقابة المحامين والسلطة القضائية منذ سنوات، والتي تتجدد مع كل قرار يُحمّل المحامين أعباء مالية جديدة دون إشراكهم في التشاور أو مراعاة لظروف المهنة والمواطنين.
وفي ظل غياب أي تعليق رسمي حتى الآن من وزارة العدل أو مجلس القضاء الأعلى، تزداد الأصوات المطالبة بمراجعة شاملة لسياسات الرسوم والتقاضي في مصر، على أن تراعي البعد الاجتماعي وتكفل العدالة حقاً دستورياً، لا خدمة مدفوعة الأجر فقط.
كلفة باهظة على المواطنين
في سياق متصل أكد محمد أنور السادات، المحامي وعضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قرار فرض رسوم جديدة على خدمات التقاضي مثّل صدمة ليس فقط للمحامين، بل لقطاع واسع من المهنيين والمواطنين، لما يحمله من تبعات مباشرة على الحق في اللجوء إلى العدالة. وقال إن القرار الذي صدر عن مجلس رؤساء محاكم الاستئناف جاء في توقيت حرج، ويتجاوز الإطار التشريعي، ما يطرح علامات استفهام حول مشروعيته وتداعياته الاجتماعية.
وأشار السادات إلى أن المجلس القومي لحقوق الإنسان لم يلتزم الصمت، بل وجّه مخاطبات رسمية إلى وزارة العدل ورئيس مجلس النواب للمطالبة بإعادة النظر في القرار، محذرًا من أن المضي في تطبيقه يفرض كلفة باهظة على المواطنين، ويمسّ أحد أهم الضمانات الدستورية، وهو الحق في التقاضي من دون عوائق مالية.
وشدد على أن الغضب من هذه الرسوم لم يقتصر على نقابة المحامين التي عبّرت عن احتجاجها في أكثر من موقف، بل امتد إلى أحزاب سياسية ونقابات مهنية أخرى تشعر بالقلق من توسع نمط فرض الرسوم مقابل خدمات عامة من دون سند قانوني، كما يحدث أحيانًا في بعض المحافظات. وأوضح أن تحميل المواطنين مزيدًا من الأعباء في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة يمثل تهديدًا صامتًا للاستقرار الاجتماعي.
وحذّر السادات من أن تجاهل هذه الاعتراضات قد يؤدي إلى تفاقم التوتر، داعيًا إلى احتواء الأزمة بالحوار الهادئ والتواصل المباشر مع مؤسسات الدولة المعنية، بعيدًا عن أي تصعيد قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة. وختم بالقول: “نحن لا نسعى إلى مواجهة، بل إلى حل متوازن يحفظ للمواطن كرامته، ويصون حقه في العدالة، ويمنع تحول التقاضي إلى امتياز لمن يملك فقط”.
نقابة المحامين تصعد ضد الرسوم
وفي تصعيد لافت لأزمة الرسوم القضائية، قال عبد الحليم علام، نقيب المحامين، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده اليوم الأربعاء، إن النقابة ستلجأ إلى رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي إذا لم تستجب الجهات المعنية لمطالب المحامين بوقف ما وصفه بـ”الجباية المفروضة على المواطنين دون سند قانوني”.
وأكد علام أن “زيادة الرسوم القضائية تمثل خطرًا حقيقيًّا على السلم والأمن القومي للبلاد، لأنها تحرم المواطن من حقه في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي”، مشددًا على أن تلك الزيادات لا تستند إلى قانون، بل تُفرض بطريقة تضع العدالة في مصر على المحك. وأضاف نقيب المحامين أن “مجلس رؤساء محاكم الاستئناف يُحوّل حق التقاضي إلى امتياز لمن استطاع إليه سبيلًا”، محذرًا من أن استمرار هذا النهج يهدد بتفتيت منظومة العدالة برمتها، ويدفع الغالبية من المواطنين إلى العزوف عن اللجوء إلى المحاكم بسبب الكلفة الباهظة للإجراءات القضائية.
وختم علام تصريحاته بتأكيد أن “نقابة المحامين تقف ضد مد الأيدي إلى جيوب المواطنين، وترفض فرض رسوم خارج إطار القانون”، مضيفًا: “نحن في دولة قانون، وليس من حق أي جهة فرض أعباء مالية جديدة دون سند تشريعي واضح، ولن نسمح باستمرار هذا الوضع الجائر”.
ويُذكر أن النقابة العامة للمحامين كانت قد خاضت معارك مماثلة خلال السنوات الماضية ضد زيادات مفروضة على دمغات ورسوم القيد والتراخيص، ما يؤشر إلى احتقان مهني واجتماعي متراكم قد يتصاعد خلال الفترة المقبلة إذا لم يتم التوصل إلى حلول متوازنة.